عائلات النشطاء  في السعودية.. أدوات ضغط وابتزاز سياسي

الضغط والابتزاز بالعائلات: أدوات الحكومة السعودية في مواجهة النشطاء السعوديين

تشهد المملكة العربية السعودية منذ عدة سنوات تدهورًا ملحوظًا في أوضاع حقوق الإنسان، اتسعت خلاله دائرة الانتهاكات لتشمل فئات متعددة من المواطنين، من الأكاديميين والدعاة إلى النشطاء والإعلاميين وحتى المواطنين العاديين الذين عبّروا عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ورافق هذا التدهور  تعديلات قانونية بما يضمن مزيداً من القمع تحت مببرات قانونية فضفاضة، إذ أعيد صياغة نظام مكافحة الإرهاب ونظام الجرائم المعلوماتية، وسحبت كثيرا من الصلاحيات من وزارة الداخلية وألحقت برئاسة أمن الدولة التي تتبع الملك مباشرة وهي هيئة أسست في يوليو 2017، ضمن توجه السلطات السعودية لمزيد من القمع وإرهاب الدولة.

نتيجة لذلك تحوّلت السعودية إلى واحدة من أكثر الدول قمعًا في المنطقة، إذ تصاعدت حملات الاعتقال منذ عام 2017، وامتدت لتشمل شخصيات كانت تُعتبر في السابق قريبة من النظام أو تعمل ضمن مؤسساته، ومع إطلاقرؤية 2030″، استخدمت الحكومة شعارات الإصلاح والانفتاح لتغطية موجة من القمع الممنهج الذي استهدف كل من عبّر عن رأي مستقل أو انتقاد علني للسياسات الحكومية.

وأصبح الاعتقال التعسفي سلاحًا سياسيًا بيد السلطة، يُستخدم ضد النشطاء والمعارضين والمفكرين وحتى من يُشتبه في تعاطفهم مع تيارات إصلاحية أو فكرية، وغالبًا ما تُنفّذ هذه الاعتقالات دون مذكرات قانونية أو محاكمات علنية، ويُحرم المعتقلون من التواصل مع محاميهم أو عائلاتهم لفترات طويلة، وقد وثّقت سند حالات احتجاز في أماكن سرية، وتعرّض معتقلين للتعذيب وسوء المعاملة.

في موازاة هذا القمع الميداني، أحكمت السلطات السعودية سيطرتها الكاملة على المشهد الإعلامي والسياسي، فأُغلقت جميع مساحات التعبير المستقلة، وصودرت المنابر الفكرية والإعلامية، وتحول الخطاب العام إلى صوت واحد يعكس الرواية الرسمية دون نقاش أو توازن، الإعلام السعودي، الرسمي والخاص، يعمل اليوم تحت توجيه مباشر من الأجهزة العليا، بينما يُمارس الرقابة الذاتية خوفًا من المساءلة أو الإقصاء، وهكذا، أصبح المجال العام مغلق أمام أي رأي حر، أو منتقد للنظام.

دفع اغلاق المساحة الآمنة للتعبير داخل السعودية كثيراً من النشطاء والمثقفين إلى المنفى، الأمر الذي أدى إلى تنامي المعارضة السلمية في الخارج، والتي توزعت بين عدد من الدول، تدعو إلى الإصلاح السياسي وتطالب بـحقوق المواطنين داخل السعودية، غير أن السلطات، بدلًا من الاستماع إلى مطالبها وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والتخفيف من معاناة المواطنين، والإفراج عن المعتقلين، اختارت المضي في الاتجاه المعاكس، فسعت إلى إسكات تلك الأصوات عبر أساليب متعددة، من أبرزها القمع العابر للحدود، الذي أدى إلى مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، واعتقال الدكتور أسامة الحسني من المغرب، ومحمد العتيبي من قطر، إلى جانب آخرين طالتهم يد القمع خارج الحدود.

وفي هذا التقرير نسلّط الضوء على أسلوب آخر من أساليب الحكومة السعودية في اسكات الأصوات المنتقدة، وهي ابتزاز المعارضين السعوديين من خلال اعتقال ذويهم داخل المملكة، بهدف الضغط عليهم وإسكاتهم.

يتناول التقرير ثماني حالات موثّقة، هي:

  • اعتقال شقيقي الدكتور سعيد الغامدي، وهما محمد الغامدي (الذي صدر بحقه حكم بالإعدام ثم أُلغي لاحقًا واستُبدل بالسجن ثلاثين عامًا)، وأسعد الغامدي الذي أُفرج عنه بعد اعتقال دام سنوات.
  • اعتقال عائدة الغامدي، والدة الناشط السياسي والحقوقي عبدالله الغامدي، وشقيقه عادل الغامدي.
  • اعتقال شقيقي الناشط السياسي والحقوقي عمر عبدالعزيز الزهراني، وهما أحمد وعبدالمجيد الزهراني.
  • اعتقال نجلي المسؤول السابق سعد الجبري، وهما عمر الجبري وسارة الجبري.

د. سعيد الغامدي
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة، مفكر وباحث إسلامي وناشط سياسي وحقوقي سعودي 

د. سعيد بن ناصر الغامدي

تعرضت أسرة المعارض السعودي المقيم في لندن الدكتور سعيد الغامدي لسلسلة من الانتهاكات المتعمدة، في إطار سياسة الانتقام العائلي التي تتبعها السلطات السعودية ضد المعارضين في الخارج، ففي يونيو عام 2022، اعتقلت السلطات المعلم المتقاعد محمد ناصر الغامدي، شقيق الدكتور سعيد، على خلفية خمس تغريدات نُسبت إلى حساب وهمي على موقعتويتر، ورغم بساطة التهم المزعومة، وغياب أي دعوة للعنف أو التحريض، أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في يوليو 2023 حكمًا بالإعدام بحقه، وهو الأمر الذي اعتبره الدكتور الغامدي بأنه وسيلة للنكاية به شخصياً بعد عدة محاولات فاشلة لإعادته للبلاد.

محمد ناصر الغامدي

لكن وبعد ضغوط دولية واسعة من بينها جهود للخارجية الأمريكية وهيومن رايتس
ووتش
والعفو الدولية، بالإضافة إلى قرار فريق الخبراء المعني بالاعتقال التعسفي، تم تخفيف حكم الإعدام بحق محمد الغامدي وإصدار حكم تعسفي آخر بسجنه لمدة 30 عاماً.

أسعد الغامدي

ولم يقتصر ابتزاز الدكتور سعيد الغامدي على محمد الغامدي، بل طال أيضًا شقيقه الثاني المعلم أسعد الغامدي، الذي اعتُقل في نوفمبر 2022، وبعد محاكمة غير عادلة، صدر بحقه حكم بالسجن لمدة عشرين عامًا، خُفف لاحقًا إلى خمسة عشر عامًا، إلا أن الضغوط الحقوقية التي تواصلت طيلة فترة اعتقاله، أسفرت عن إفراج السلطات عنه في فبراير 2025، بعد أن أمضى أكثر من عامين رهن الاعتقال التعسفي.

كما لم تكتف السلطات السعودية باعتقال أشقاء الدكتور سعيد فحسب، بل فرضت حظر سفر شاملًا على جميع أفراد عائلته داخل المملكة، ومنعتهم من مغادرة البلاد، في إطار ما يبدو أنه سياسة عقاب جماعي تهدف إلى عزل المعارضين عن أسرهم وخلق حالة من الترهيب المستمر داخل المجتمع السعودي.

عمر عبدالعزيز الزهراني
ناشط سياسي وحقوقي سعودي

عمر عبدالعزيز الزهراني

في 21 أغسطس 2018، استدعت السلطات السعودية أحمد وعبدالمجيد الزهراني، شقيقي المعارض السعودي المقيم في كندا عمر عبدالعزيز الزهراني، إلى سجن ذهبان في مدينة جدة، حيث تم اعتقالهما منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، رغم عدم انخراطهما في أي نشاط سياسي.

أحمد وعبدالمجيد الزهراني

وقد سبق اعتقالهما محاولات عدة لإقناع عمر الزهراني بوقف نشاطه المعارض للحكومة السعودية، جرت من خلال شقيقه أحمد وعدد من المبعوثين الرسميين، ولم يقتصر الأمر على اعتقال أشقاء عمر فحسب، بل امتد القمع ليطال بعض أصدقائه السابقين، خاصة بعد أن قامت السلطات السعودية باختراق هاتفه المحمول.

كما تجاوزت السلطات السعودية مجرد اعتقال أشقاء عمر وأصدقائه، لتشمل منع كافة أفراد أسرته من السفر وقطع وسائل التواصل معه، وفي لقاءٍ مصوّر قال عمر عبدالعزيز إن التواصل بينه وبين أسرته لا يزال مقطوعًا منذ عام 2018، في ظل استمرار منع جميع أفراد الأسرة من السفر، واعتقال اثنين من أشقائه رغم عدم ارتباط الأسرة بأي نشاط سياسي، وذلك في سياق ما يبدو أنه سياسة عقاب جماعي تمارسها السلطات السعودية ضد عائلات المعارضين.

عبدالله الغامدي
ناشط سياسي وحقوقي سعودي

عبدالله الغامدي

في 26 مارس 2018، أقدمت السلطات السعودية على اعتقال والدة عبدالله الغامديعائدة الغامديوشقيقهعادل الغامديدون مذكرة توقيف، بينما كانا في طريقهما إلى أحد مراكز التسوق في حي الجامعة بمدينة الدمام، وقد نُفِّذت عملية الاعتقال على يد عناصر من المديرية العامة للمباحث التابعة لرئاسة أمن الدولة، الذين كانوا يرتدون حينها ملابس مدنية.

 لم يقتصر الأمر على الاعتقال، إذ تعرض الاثنان للتعذيب الجسدي والنفسي، وجرى إخفاؤهما قسريًا لمدة ثلاثة أشهر، كما مُنعا من توكيل محامٍ و مثُلا أمام محكمة افتقرت لأدنى معايير العدالة، انتهت بإصدار أحكام قاسية بالسجن 16 عامًا لعائدة و 14 عامًا لابنها عادل.

وفي تصريحٍ له، قال عبدالله الغامدي إنّ ظروف اعتقال والدته وشقيقه تُظهر بوضوح أنّ نشاطه الحقوقي والسياسي كان السبب وراء ذلك الاعتقال، كاشفًا عن تعرّضهما للتعذيب والضرب المبرّح، وإطفاء السجائر في جسديهما، واحتجازهما جميعًا في الحبس الانفرادي لفتراتٍ طويلة، وأضاف أنّه أُبلِغ بأنّ أيَّ تواصلٍ مع أفراد عائلته سيُعرّض حياتهم للخطر.

وفي السياق ذاته توصل فريق الخبراء المعني بالاعتقال التعسفي أيضاً إلى أن اعتقال السيدة الغامدي وابنها كان نتيجة لنشاط عبدالله الغامدي في الخارج ضد الحكومة السعودية، وأشار إلى أن اعتقالهما جاء كجزء من حملة انتقامية تهدف إلى إجبار قريبهم على التراجع عن مواقفه السياسية.

ولا تتوقف سياسة الانتقام والابتزاز عند اعتقال والدة عبد الله الغامدي وشقيقه، بل امتدت لتشمل منع جميع أفراد الأسرة من السفر، رغم أنهم لا يملكون أي نشاط سياسي أو حقوقي.

اللواء سعد الجبري
وزير وضابط استخبارات سعودي سابق، مستشار ولي العهد السابق محمد بن نايف 

اللواء سعد الجبري

في 16 مارس 2020، أقدمت السلطات السعودية على اعتقال الشقيقين سارة الجبري وعمر الجبري، من منزلهما في مدينة الرياض، دون أمر قضائي أو مذكرات توقيف، وذلك بعد أن حاصر عناصر من رئاسة أمن الدولة المكان بملابس مدنية ونقلوهما إلى جهة غير معلومة.

جرى اعتقالهما بمعزل عن العالم الخارجي لعدة أشهر، ومنعت عائلتهما من معرفة مكان وجودهما أو التواصل معهما، كما لم يُسمح لهما بتوكيل محامٍ أو المثول أمام قضاء مستقل.

تعرض الاثنان خلال فترة احتجازهما إلى سوء معاملة وضغط نفسي شديد، شمل العزل الانفرادي لفترات طويلة، والاستجوابات المتكررة دون حضور قانوني، والتهديد بالانتقام من أفراد الأسرة الآخرين، وبحسب ما وثقه قرار فريق الخبراء الأممي، فقد أُرغما على توقيع اعترافات تحت الإكراه، واستخدمت هذه الاعترافات لاحقًا كأساس لمحاكمتهما.

عمر وسارة الجبري

وفي نهاية عام 2020، أُحيلا إلى المحكمة الجزائية المتخصصة، حيث جرت محاكمتهما سريًا دون حضور محامين أو تمكينهما من الدفاع عن نفسيهما، وصدر بحقهما أحكام قاسية بالسجن تسع سنوات لعمر، وست سنوات ونصف لسارة، على خلفية اتهامات مرتبطة بوالدهما سعد الجبري، القيادي الأمني السابق المقيم في المنفى، وقد اعتبرت هيومن رايتس ووتش ذلك محاكمة جائرة جرت في محاولة لإجبار والدهم على العودة إلى المملكة.

وفي عام 2022، خلص فريق الخبراء المعني بالاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة في قراره رقم (29/2022) إلى أن اعتقال سارة وعمر الجبري كان تعسفيًا ناتج عن علاقتهما العائلية بوالدهما سعد الجبري، وكان الهدف من ذلك الضغط عليه لإجباره على العودة إلى المملكة العربية السعودية، وهو الأمر الذي أكده الجبري في أكثر من مناسبة.

الخاتمة والتوصيات

تؤكد الحالات الموثقة التي تناولها تقرير منظمة سند الحقوقية أن ممارسات الابتزاز والضغط على عائلات المعارضين في السعودية ليست حوادث فردية أو استثناءات، بل جزء من نهج منظم يهدف أخيراً إلى اسكات أي صوت منتقد، وخنق حرية التعبير، ليس في داخل البلاد فحسب بل حتى خارج حدود الدولة،

ولا يقتصر هذا النهج على من سبق أن عبّر عن مواقف معارضة، بل يُراد به ترهيب كل من يفكر في الانتقاد، عبر رسالة واضحة أن عائلتك ستدفع ثمن انتقادك أو تعبيرك عن رأيك.

إن تمادي السلطات السعودية في هذه الانتهاكات ما كان ليحدث لولا تغاضي المجتمع الدولي وغياب المحاسبة الحقيقية للسلطات السعودية، وهو ما يستدعي من المنظمات الحقوقية والمؤسسات الدولية تكثيف الضغط والعمل الجاد لوقف هذا القمع الممنهج والمتصاعد.

 كما تدعو منظمة سند الحقوقية إلى:

  1. الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين الذين تعتقلهم السلطات السعودية بغرض ابتزاز ذويهم.
  2. وقف سياسة العقاب الجماعي ضد عائلات النشطاء والمعارضين، واحترام مبدأ عدم محاسبة الأفراد على أفعال غيرهم.
  3. تدعو سند المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان إلى فتح تحقيق دولي مستقل في حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة التي طالت أقارب المعارضين، ومحاسبة المتورطين فيها.
  4. على المجتمع الدولي تعزيز الدعم والحماية للمدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين في الخارج، وضمان عدم استهدافهم أو أسرهم داخل المملكة.
  5. تدعو منظمة سند الحقوقية المجتمع الدولي ممثلاً بالحكومات والهيئات الدولية ومنظمات حقوق الانسان إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان، وفرض عقوبات دولية رادعة عليه وعلى المتورطين معه، حتى يتم وضع حد لسياسة القمع والانتهاكات المستمرة في السعودية.
زر الذهاب إلى الأعلى